سورة الرعد - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} [الرّعد: 13/ 20- 24].
يصف الله تعالى في هذه الآيات أولي الألباب الذين يسّرهم للإيمان برسالة النّبي والقرآن، واعتقدوا أن ما أنزل الله هو الحقّ بالصفات التالية:
1- الوفاء بالعهد: فالمؤمنون الصادقون يوفون بما عاهدوا الله عليه من الإيمان بربوبيّته وبالمواثيق والعهود كلها بينهم وبين ربّهم، وهي أوامر الله ونواهيه التي وصّى بها عبيده، وهذا يشمل جميع الفرائض والواجبات والشرائع والأحكام والآداب والأخلاق، والامتناع عن جميع المخالفات والمعاصي.
2- عدم نقض الميثاق: أي إنهم يلازمون أداء الأوامر واجتناب النّواهي مدى الحياة، ولا يخلّون بواجبات العهد والتزاماته، ولا ينقضون أي بند من بنود العهد الإيماني مع ربّهم، ولا بالعقود التي يبرمونها مع الناس من بيع وشراء وإيجار واستئجار وشركة ونحوها، على عكس ما نشاهده اليوم أن كثيرا من الناس، يبرمون العقود مع غيرهم، ويتّفقون على الشروط، ثم يتحلّل الواحد منهم من العقد كله أو بعضه، ضاربا بكلامه الذي التزم به عرض الحائط. وهذا اللون من نقض العقد أو فسخه ينقلهم من حديقة الإيمان ونور الحقّ والقرآن إلى دائرة النفاق الاجتماعي، قال عليه الصّلاة والسّلام- فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما-: «آية المنافق ثلاث:
إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
3- صلة ما أمر الله بوصله: من حقوق الله ومؤازرة النّبي والقرآن، وحقوق العباد التي من أهمها وأولاها: صلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والمحتاجين والفقراء لأن من شأن المؤمن أن يعمّ خيره ويدوم نفعه، ويؤدي واجبه نحو غيره لإرضاء ربّه، دون أن يقصد نفعا مادّيا لنفسه أو طمعا في مال أو جاه أو وظيفة، فإن الله ربّ العباد هو الميسّر للخير والمانع من الشّر، والعبد مجرد أداة ووسيلة.
4- الخوف من الله وخشية عذابه: أي إن أولي الألباب هم الذين يخافون ربّهم فيما يأتون، وما يتركون من أعمال، ويراقبون الله في السّرّ والعلن، يخلصون النّية والقصد لوجه الله، ويحذرون من شدّة العذاب، وسوء الحساب في الآخرة لأن عاقبة ذلك وخيمة وهي الزّج في نيران جهنم.
5- الصّبر: يصبر العاقل الرشيد على طاعة ربّه، واجتناب معصيته لأن في الطاعة عزّ النفس ونجاتها، وفي المعصية الذّلّ والانكسار، والندم والخسران. ويشمل الصبر لوجه الله جميع الأحوال من الرّزايا والأسقام والعبادات.
6- إقام الصّلاة المفروضة: فالعقلاء هم الذين يؤدّون ما أوجب الله عليهم من الصلاة كاملة الأركان تامّة الشروط والأوصاف، مع خشوع القلب لله، وخضوع النفس لربّ العباد.
7- الإنفاق في وجوه الخير: إن المؤمنين الصادقين هم الذين ينفقون بعض أموالهم في السّر والعلن في مرضاة الله، من غير قصد الشهرة والرّياء، والتّباهي والسّمعة، ويفعلون ذلك بقصد التقرب إلى الله، وجب الخير، والرفاه لعباد الله جميعا، من غير تفرقة بين مؤمن وغير مؤمن لأن الإنسان يتخلّق بأخلاق الله في إمداد العباد بالرّزق، سواء آمنوا أو كفروا. وذلك هو السّمو بذاته والرّفعة بعينها.
8- مقابلة الإساءة بالإحسان: إن المؤمن الصادق هو الذي يترفّع عن الأخذ بالثّأر والانتقام، ويردّ السّيئة ويدفعها بالحسنة، فيقابل الجهل بالحلم، والأذى بالصبر، والضّرر بالنّفع، والإساءة بالعفو والصّفح وكظم الغيظ.
هؤلاء العقلاء (أولو الألباب) الموصوفون بالصفات السابقة، هم لا غيرهم لهم العاقبة الحسنة والسعادة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا ينتصرون على الأعداء، وفي الآخرة يدخلون الجنة بفضل من الله وإحسان. تلك العاقبة الحسنى هي الظفر بجنان الخلد، التي يقيم فيها الصالحون والأنبياء والمرسلون، يدخلونها هم وصالحو المؤمنين من آبائهم وأجدادهم وفروعهم وذرّياتهم، يتنعّمون بخيراتها. وتدخل عليهم الملائكة من أبواب الجنة المختلفة تحييهم وتسلّم عليهم قائلين لهم: سلام دائم عليكم، ورحمة سابغة من ربّكم، بسبب صبركم في دنياكم على الطاعة، وتجنّب المعصية، والرّضا في المصاب بالقضاء والقدر، والحمد والشكر على نعم الله، فنعم عقبى الدنيا الجنة. وما أسعد العمال الذين أحسنوا العمل، وأتقنوا الصنعة، إذا ظفروا بالجزاء الحسن: من تقدير وحبّ، وسمعة واحترام، ومكافأة مجزية، تجعلهم راضين رضا كاملا في نفوسهم، مطمئنين مرتاحي البال والضمير لأن غيرهم قدّر عملهم.
أوصاف الأشقياء:
واقع الحياة الدنيا وأحوال الناس فيها عجيب غريب، فمنهم أهل الحق والاستقامة وهم السعداء بالفعل، ومنهم أهل الباطل والانحراف، وهم الأشقياء بالفعل، وكل امرئ بما كسب رهين، وبحسب ما يزرع كل إنسان يحصد في الدنيا والآخرة، فمن زرع نباتا طيّبا، استفاد منه وأفاد الآخرين، ومن زرع نباتا خبيثا، أضرّ نفسه وأضرّ الآخرين، ولا غرابة بعدئذ أن يجازى المحسنون أعمالهم بجنان الخلد، ويجازى الأشرار والفجّار بنيران الجحيم، وذلك هو مقتضى العدل. وقد وصف الله تعالى أهل الشقاوة بما يأتي:


{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)} [الرّعد: 13/ 25- 29].
وصف الله تعالى في الآية الأولى الأشقياء بصفات ثلاث وهي:
1- نقض عهد الله: أي إنهم ينكثون بعهد الله الذي ألزم عباده به وأمرهم بفعله، سواء فيما يتعلق بالإيمان بوجود الله ووحدانيته وقدرته وعلمه وإرادته، أو بالإيمان بالأنبياء والرّسل والكتب المنزلة من عند الله، أو يتعلق بحقوق الناس.
2- قطع ما أمر الله به أن يوصل: أي قطع كل ما أوجب الله وصله، من الإيمان بالله وبرسله وكتبه، وقطع الرحم والقرابة، وعدم صلة المؤمنين وأصحاب الحقوق.
روي: «إذا لم تمش إلى قريبك برجلك، ولم تواسه بمالك، فقد قطعته».
3- الإفساد في الأرض: أي ويفسدون في الدنيا بأعمالهم الخبيثة، من الظلم والجور، والدعوة إلى غير دين الله، وخيانة الأمانة، وتخريب الديار، وإفساد الأخلاق، وإثارة الفتن والضّلالات، وإيقاد نيران الحروب ظلما وعدوانا.
أصحاب هذه الصفات يستحقون اللعنة، أي الطّرد من رحمة الله والإبعاد من خيري الدنيا والآخرة، ولهم سوء العاقبة والمآل، وهو عذاب جهنم.
ثم أبان الله تعالى أن تقدير الأرزاق في الدنيا بين العباد منوط بإرادة الله وحكمته، لأن الدنيا دار امتحان، وليس لها قيمة تذكر عند الله تعالى، فقد يبسط الله الرّزق للكافر، ويقتّره على المؤمن، وذلك لا يدلّ على تكريم الكافر وإهانة المؤمن، فإن سعة الرزق قد تكون دليلا على التّورّط والاستدراج والإضرار، وتضييق الرزق قد يكون زيادة في الأجر والثواب. والمعنى إن هذا كله بمشيئة الله، يهب الكافر المال ليهلكه به، ويقدره على المؤمن ليعظم بذلك أجره وذخره. لهذا عاب الله الأغنياء الأشقياء وحقّر شأنهم وشأن أموالهم، فلا يصح لهم أن يفهموا أن زيادة الرزق والغنى ووفرة المال لكونهم يستحقون ذلك، وإنما قد يكون ذلك تعذيبا لهم، فإذا فرح المشركون والكافرون فرح بطر وتكبّر بالحياة الدنيا ومتعها، وجهلوا ما عند الله من الخير الدائم الخالد في الآخرة والسعادة الأبدية، فإن فرحتهم يعقبها الغصّة والألم، لأن الحياة الدنيا في ميزان الآخرة مجرد متاع زائل، وشيء قليل ذاهب، يزول بسرعة كالبرق الخاطف، لمن تأمل ووعى.
روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ما الدّنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم يرجع، وأشار بالسّبابة».
وقد يتمادى أهل الثروة والطغيان فيطالبون بمطالب مادّية تعجيزية لا فائدة منها، مثلما فعل مشركو مكة الذين اغتروا بمتاع الحياة الدنيا، وطمست المادة وحبّ الدنيا قلوبهم ومشاعرهم، فاقترحوا على النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم إنزال آيات مادّية غريبة كإسقاط السماء عليهم كسفا، أي قطعا، أو تسيير جبال مكة من أماكنها، وجعل البطاح محارث وبساتين ومغارس، وإحياء الماضين والأسلاف، علما بأن مثل هذه المقترحات لا تكون عادة إلا إذا أراد الله تعذيب قوم، فردّ الله عليهم بأن نزول هذه الآيات لا يؤدي بالضرورة إلى إيمانهم ولا هداهم، وإنما الأمر بيد الله يضلّ من يشاء بسبب علمه بفساد الضّال، ويهدي من يشاء إلى طاعته والإيمان به بسبب إيمانه بالآيات الدّالة على حقيقة الإيمان، وإنابته لطاعة الرحمن.
إن هؤلاء الذين يستحقون الهداية هم الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، وسكنت قلوبهم إلى توحيد الله ووعده، وسرّوا بذكر الله واطمأنت قلوبهم إلى ربّهم، ورضوا بالثواب الإلهي والفضل والإحسان الرّبّاني، ولم يشكّوا بشيء من أصول الإيمان، ولم يتبرموا أو يستخطوا على مراد الله وقدره، وتلك هي السعادة الحقيقية: سكون القلب، وهدوء البال، والبعد عن القلق والاضطراب مصدر أكثر الأمراض، ألا بذكر الله تطمئن القلوب وتهدأ، وتلتزم باليقين ويستقرّ فيها الإيمان الكامل، وتفيض بنور الإيمان، وتشعر براحة النفس.
إن هؤلاء المؤمنين الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان الصحيح وبرد اليقين، وعملوا صالح الأعمال بأداء الفرائض وترك المعاصي لهم العيش الطيب الهنيء، والنعمة والخير، وحسن المرجع والثواب، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)} [الرعد: 13/ 29]. والمآب: المرجع والمآل. وكلمة (طوبى) إما اسم أو مصدر، فهي اسم شجرة في الجنة، أو هي بمعنى الخير والنعمة والغبطة والعيش الطّيب للمؤمنين.
النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن الكريم:
إن علاقة الرّسل عليهم السّلام بأقوامهم علاقة صعبة وشائكة ودقيقة، لأن أولئك الأقوام قوم عتاة أشداء، وتوارثوا عادات معينة، وألفوا البدائية والفوضى وممارسة الأهواء والشهوات، والأنبياء والرّسل ذوو رسالة إصلاحية شاملة في العقيدة والشريعة والآداب القويمة، يريدون أن ينقلوا الأقوام من همجيات أفعالهم إلى نور المعرفة والإيمان والمدنية والنور، وذلك الانتقال يحتاج لجهود كبيرة وتضحيات جسمية، فيقع الصّراع والتّحدي بين النّبي وقومه، وهكذا كانت الحال مع رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ومشركي قريش في مكة المكرمة: حال قائمة على الصّراع الحادّ والتّحدي، كما وصف الله في الآيات التالية:


{كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)} [الرّعد: 13/ 30- 32].
لقد أبان الله تعالى في هذه الآيات قيمة وأهمية إرسال النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقيمة ما أرسل به وعظمة القرآن الكريم المنزل عليه، فمثل ذلك الإرسال للأنبياء السابقين أرسلناك أيها الرسول محمد إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات، كما قال الزمخشري، ومهمتك في هذا الإرسال واضحة، أرسلناك بكتاب تبلّغه للناس وتقرؤه عليهم، كما أرسلنا رسلا إلى أمم من قبلك، ولما كذّب الرّسل، انظر كيف نصرناهم وجعلنا العاقبة لهم، ولأتباعهم في الدنيا والآخرة. وأما المرسل إليهم فكانوا يكفرون بالرّحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، لا يقرّون به، ولا يشكرون نعمه وفضله، وأخطر ما يقولون: إن لله شريكا، فكان الرّد المأمور به عليهم: قل لهم أيها الرسول: إن الرّحمن الذي تكفرون به، أنا مؤمن به معترف، مقرّ له بالرّبوبية والألوهية، فهو متولّي أمري وخالقي، لا إله غيره ولا معبود سواه، توكّلت عليه في جميع أموري، وفوّضتها إليه، وإليه أرجع وأنيب، فإنه لا يستحقّ ذلك أحد سواه.
ثم بيّن الله تعالى عظمة القرآن وفضله على سائر الكتب المنزلة قبله، فلو كان هناك في الكتب الماضية كتاب تسيّر بتلاوته الجبال عن أماكنها، أو تقطّع به الأرض وتشقق وتجعل أنهارا وعيونا، أو تكلّم به الموتى في قبورهم لإحيائهم بقراءته، لكان هذا القرآن هو المتّصف بتلك الصفات، دون غيره، بل هو الأولى، لما فيه من الإعجاز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لاشتماله على الآيات الكونية الدّالة على وجود الله، والشرائع والأحكام المنظمة لعلاقات الناس، والكفيلة بإسعادهم في الدّارين.
وكان هذا الوصف ردّا على مشركي قريش الذين طالبوا بآية تعجيزية مادّية تثبت نبوّة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
روى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: إن كنت نبيّا كما تزعم، فباعد جبلي مكة أخشبيها (جبلين فيها) هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة، فإنها ضيقة، حتى نزرع فيها ونرعى، وابعث لنا آباءنا من الموتى، حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي، أو احملنا إلى الشام أو اليمن أو إلى الحيرة، حتى نذهب ونجي، في ليلة، كما زعمت أنك فعلته، فنزلت هذه الآية.
ردّ الله عليهم بقوله: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} أي بل مرجع الأمور كلها إلى الله عزّ وجلّ، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو صاحب الأمر والإرادة في إنزال الآيات المادّية وغيرها، وهو القادر على كل شيء.
{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} أي ألم يعلم (أي أن ييأس في لغة هذيل بمعنى يعلم) المؤمنون أن الله قادر لو شاء على هداية الناس جمعيا إلى الإيمان بالقرآن، أو أن ييأس بمعناها المعروف من اليأس، والمعنى: أفلم ييأس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة، مع العلم بأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا.
ثم أخبر الله تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم وغزواته، من القتل والأسر وأخذ الأموال، أو تحلّ القارعة الدّاهية قريبا من ديارهم، فتصيب من حولهم ليتّعظوا ويعتبروا، حتى يأتي وعد الله أي حتى ينجز الله وعده لك أيها الرسول فيهم، بنصرك عليهم، إن الله ينجز وعده الذي وعدك به حتما، ولا يتخلف الله الميعاد، بالنصر عليهم. وهذه هي حال الكفار أبدا إلى يوم القيامة، حتى يتّعظوا ويقلعوا عن كفرهم.
ثم أورد تعالى آية تأنيس ومواساة للنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، مفادها: لا يضيق صدرك يا محمد بما ترى من قومك وتلقى منهم، فليس ذلك ببدع ولا نكير، فإن كذّبك بعض قومك، واستهزأ بك المشركون منهم، وطلبوا آيات منك عنادا ومكابرة، فاصبر على أذاهم، فلك في الرّسل المتقدمين أسوة، حيث أنظرت أولئك الكافرين وأجّلتهم مدة من الزمان، ثم أوقعت بهم العذاب، فانظر كيف كان عقابي لهم حين عاقبتهم. وقوله سبحانه: {فَكَيْفَ كانَ عِقابِ} تقرير وتعجيب، وفي ضمنه وعيد للكفار المعاصرين لمحمد عليه الصّلاة والسّلام، ولكل من جحد برسالته وأعرض عن دعوته إلى يوم القيامة.
من الأحقّ بالعبادة؟
إن الحرب المركزة والعنيفة الشعواء على الشّرك والوثنية في منهج الإسلام وجميع الأديان، إنما كانت من أجل إنهاء هذه الظاهرة الشاذة التي لا تتفق مع العقل السّوي والكرامة الإنسانية، ولتوجيه الإنسان نحو ما ينفعه ويدفع عنه الضّرّ بالفعل، وليترفع عن عبادة ما لا ينفع ولا يضرّ بحال من الأحوال، وهذا يحقق سموّ الإنسان. لذا وبّخ القرآن الكريم أولئك المشركين الوثنيين الذين عبدوا جمادات صماء، لا حركة فيها ولا حياة، ولا تفيد شيئا، ولا تمنع شرّا، فقال الله سبحانه:

1 | 2 | 3 | 4